الرئيسية
أنفاس بنياتي حارّة
بيدي مسحت دمعات الشيخ حيدر ، لكني لم أتمكن من مسح غصة الحزن من قلبه ، فقد كانت خفقاته بادية من فوق الثوب ، ويداه مشدودتان إلى صدره ، وكأنه يخشى عليه أن يخرج ، ويتركه دون قلب ! وعيناه تدوران في محاجرهما ، كمن يبحث عن المجهول !
وضعت يدي على كتفه ، وهتفت باسم الله ، واقتربت من أذنه ، وأسررت له هامسا : " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ... وسرت به إلى مقعد قريب ، فجلس وكأنه يلقي عليه كل همومه ، وأطلق ذراعية لتتكئ ، بل لتفرغ آلامها شحنات ساخنة ، وأمال عنقه إلى الخلف ، وسرح في الأعالي كمن ينتظر الفرج الآتي من السماء ، جهارا نهارا .
ما فارقته إلا دقائق ، عدت أحمل له كأسا من العصير البارد ، ناولته وقلت : سم الله واشرب ، عسى أن يجعل الله فيه شفاء أسقامك . ثم حدثني بما يكمدك , ... تعلقت عيناه بوجهي ، في تركيز ملأ رئتيه من الهواء ، بعد رشفة من العصير ، وشرع يفرغ أنفاسه الملتهبة ، وقال بهدوء الواثق : كم أشعر بالأسى والندم حين أقدم على عقاب بنياتي ، وكثيرا ما يكون العقاب أكبر من الذنب !... لكن هذه المرة كان الأسى والندم أكبر ، أتدري لماذا ؟
نظرت إليه نظرة بلهاء ، لا تحمل من المعاني سوى ... لا أدري ، وفهمها كما يشاء ، وأردف يقول : كنا نجلس سعداء ، والأطفال حولنا يمرحون ، وتملؤهم الطمأنينة ، والفرح ، والسعادة ، وعيوننا تتابعهم أحيانًا ، ونظراتنا تنبههم ... ، وفي غمرة هذا الفرح ، جاءت كؤوس الشراب الساخن ، وحطت رحالها على بساط الود الذي يسود بيتنا الغالي . وفي لحظة كان الشيطان قد جهز لها عفاريته ، امتدت رجل إحداهن إلى حافة الطبق ، فقلبته بصورة آلية على ما فيه .... جحظت عيناي ، وصمت الجميع ، وانهالت صفعاتي على بنياتي ، ... ضربتهن كغرائب الإبل ، وصرن يستجرن ، ولا مجير ، وحاولت أمهن أن تغيثهن فلم يجدها ، وكلّت ، ونال بنياتي ما لم يخطر ببالي...... . وحين سكت عني الغضب وعزلت نفسي ، وجرى شريط الأحداث على خاطري ، لم أقبله ، ولم أرض مجرد تصوره ، وخُيِّل لي لو أني رأيت غيري يفعل فعلتي لزجرته ، بل قد أصوغ له خطبة عصماء من المواعظ الجليلة حول العطف والحنان الذي يحتاجه الأطفال في هذا العمر ،والرعاية والمحبة لهؤلاء البراعم ، الذين يملئون البيوت سعادة ومحبة ، ولدعوت الله له أن لا يخلي منهم بيتا من بيوت المسلمين .
بكيت ، لكن بدموع جافة ، كنت حريصًا أن لا يراها أحد ، أو أن تنزل على خدي ، ووضعت رأسي بين أوراقي ، أقلبها ، وأعبث بحروفها ، وأسأل الله أن يخرجني من البيت لأي سب لينتهي الموقف الذي أنا فيه . وكانت ساعة إجابة ، فما برح أذان العصر يشق عنان السماء ، ... حمدت الله ، وتسللت من غرفتي قاصدًا المسجد ، علّي أجد في الصلاة مندوحة عن هواجسي .
لم تطل صلاة العصر ، ووجدتني أحرك المفتاح في قفل الباب ، وأشقه بهدوء كأني أريد أن أكتشف المخبوء بين بنياتي ، لم يكنَّ في انتظاري كالعادة , ومضى الوقت ثقيلا ، لكنهن جئن ، وآثار العقاب لا تفارق نظراتهن التائهة ، وكانت عيونهن تجول في أنحاء وجهي ، وقد بادرنني بالأسف عن كل ذلك .
دون أن أفكر مددت ذراعيَّ ، فتسابقن يلقين أجسادهن البرعمية في حضني ، كمن يلجأ إلى أمنه بعد خوف ، ضممتهن معا ، وخيل لي أني لا أريد أن أفكهن من حضني ، كمن يخشى أن يفلتن منه ، ضممتهن ، شممتهن ، حتى شعرت أن أنفاسنا قد اختلطت ، وبكيت ، لكن بدموع جافة . ووجدت أنفاس بنياتي تحرق صدري ، وتثلجه ، ولا أستطيع لها تفسيرا ، غير أنها أنفاس بنياتي الحارة .
احصائيات
أعضاؤنا قدموا 2501 مساهمة في هذا المنتدى في 570 موضوع
هذا المنتدى يتوفر على 42 عُضو.
آخر عُضو مُسجل هو hamada فمرحباً به.
بحـث
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
| الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
|---|---|---|---|---|---|---|
| 1 | 2 | |||||
| 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
| 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
| 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
» أصعب ابتسامة
» أل22% من فلسطين
» جرح اللسان ما اقساه {{ قصة قصيرة }}
» انظروا كيف أصح حالنا
» أي من الجمل التالية تؤلمك
» قل لي ....
» أجمل لحظات عمرك
» ثلاثة أشياء
» هل رأيت أثر التسبيح عليك ؟
» اقرأ هذا الدعاء وان شاء الله سوف ييسر الله امرك
» لكي الفخر بانك انثى
» فوائد الموز
» انالا اطلب شفقة
» مولود جديد