-14-
مختار وحمد
عاد مختار من سمره مع أصحابه ليجد الأمور على غير ما تركها ، فأمه وحمدان في زاويتهما يتهامسان . وأبوه في مجلسه وغطيطه يستر أفكاره . وبقية إخوانه يجمعهم الوجوم . وتحط الهواجس فوقهم بكَلها وكليلها . لكنه لم يجد صابرة ولا ابنتها . ولم يستطع أن يسأل . وحشرجت الكلمات في حلقه ، وسبقته دموعه . أوى إلى فراشه ، وصورة أسرة أخيه لا تفارق خياله . وتزيد من ضيقه وحنقه . قلب الأمور أكثر من ثلثي الليل . لكنه يعرف إصرار أمه وأبيه على حرمان حامد من كل شيء ، خوفًا من مجاراة إخوته له . لكن ما ذنب صابرة وابنتها زاهية ، فهي كالكوب في الليلة الظلماء ، تلمع عيونها بأمل الطفولة . وقد كانت تملأ البيت سعادة . وكم تعلق بها تعلق الندى بالزهر . لا يتصور البيت في غيابها ، ويهمس في نفسه : ليتك يا حامد تعود . وليتك يا حمدان تتنازل . وليتك يا أم غالب ترضين عن حامد فتعطيه بعض الفراش ليستر نفسه وأهله . لكنه كان يعلم أن شيئًا من هواجسه لن يكون . فهو يعرف أن واحدًا منهم لن يتراجع .
بدأت ذكرياته مع حامد تهاجمه وتنازعه ساعات نومه . لم يحقق له آماله في النجاح في الدراسة ، ولم يتعلم منه أعمال الفلاحة التي كان يعتبرها عقوبة على تقصيره . وكم تدخلت أمه لتحميه من العقوبات ، ودعوات والده بالتوفيق والتوافق ، والمحبة ، والتي كان ينهيها بتذكيرهم بالموت في مقولته التي حفظوها : { مفارق الخلان بالباب واقف } . يا رب : كيف انقلبت كل هذه المشاعر إلى هذه النهاية ؟ لا بدَّ أن في الأمر خلل ، فما الذي يجعل حامد يعيش في كوخ معزول ، وبين الغرباء ؟ أيقبل كل هذه الحال من الفقر والحرمان لمجرد مشادة مع أخيه ؟ يا إلهي هل يمكن أن أصل يومًا إلى ما وصل إليه حامد ؟ وفي ذلك اليوم مع من ستقف أم غالب ؟ هل ستكون مع الصغير دائمًا ؟ أم أن حمدان هو صاحب الحظوة التي لا تتبدل ؟ وهل لعزيزة دور في ما حدث ؟ لا ... لا ...نعم ...نعم .... لكن ما علاقة عزيزة ؟
تذكر مختار أن حامدًا وضع عزيزة في الزاوية ، فبعد انقضاء عِدتها تقدم لها أحد أصدقائه ، لكنها رفضته ! وحين استوضحها ، أصرت على موقفها ، فخيّرها بين هذا الخاطب وبين أن تبقى دون زواج طوال حياتها ! أَيكون لهذا الخيار أثر في موقف عزيزة ؟ لكن حامد كان يخصها في كل كسوة بما يزيدها عن زوجاتهم . كان يقدم لها من الغلال ما يغنيها ، ويقدم لها من الرعاية ما يصونها ! لله در النساء لا يدري المرء ما الذي يرضيهن وما الذي يغضبهن . وما يدري من أمرهن سوى أنهن الأمهات والأخوات والزوجات والبنات ! لكن كيف تفكر هذه المرأة في علاقاتها بأهلها وغير أهلها ؟ هذا لا يكاد يعلمه إلا العليم الخبير .
خرج مختار من أفكاره ، وأضمر أن يمد يده لحامد ، عله يعوضه شيئًا . رجع من صلاة الفجر ليجد بغل حامد في مربطه . وضع عليه بعض الفراش ، وملأ خرجه قمحًا وذرة ، وبعض المتاع ، وقاده متوجها نحو بيت أخيه ، في الزاوية المعزولة من تلك الحاكورة ! وجد زاهية تحبو بالباب ، ترك البغل وتناولها يلاعبها ويرفعها إلى ما فوق البغل . وتعالت ضحكاتها البريئة لتخرج أمها وتسبقها دموعها حين رأت ما حمل البغل ! لم تستطع أن تُنْزِل شيئًا ، أدرك مختار مشاعرها ، وغاب خلف دموعه ، يسترها باللحاف مرة وبالخُرْجِ مرة أخرى ، حتى أفرغ حمولته . والطفلة تصيح به ، تناديه ، تداعبه ... لكنه لم يتمالك نفسه في النظر إليها . حتى إذا وقف في نهاية الحاكورة شدّه قلبه ليلتفت رافعًا يده لتلك الطفلة ..... ويناديها للذهاب معه . لكنه غاب خلف الدموع كما غابت زاهية خلف صرخاتها .
لم يملك حامد دموعه حين عاد آخر النهار ووجد ما حمله له مختار . أخذت صابرة تهون عليه ، فهذا جزء من حقه وتعبه ، وعمله طوال حياته . فهو لو كان يعمل في بلاد الكفر طوال تلك الفترة لقدموا له الكثير من المال مكافأة له ، واعترافًا بفضله ! فهل هذا الفراش وبعض المتاع الذي أحضره مختار يكفي ؟ وما دمت تصر على أن تبقى منفصلا تعيش مستقلا عنهم ، فهذا لا يمنعنا من أن نزورهم . ونبقى متواصلين معهم . وأنت تشتاق لهم مثلي وأكثر . هزَّ حامد رأسه وأقرها ، لكنه صارحها بخوفه من موقفهم منه بعد أن تأكدوا من انفصاله .
عجب أبو غالب من رسول حامد له ، مع أنه عمه ، وحمله أشواقه . ولم يكد يرمش حتى وجد حامد وأسرته يقرعون الباب كبقية الضيوف الذين لا تنقطع أطيافهم . احتضن ولده وبكى حتى استراح قلبه . وتركه ليحمل حفيدته زاهية ، قَبَّلها وشمها وضمها ودعا لها بالخير العميم والرزق الوفير والستر في الدنيا والآخرة ، وأن يرزقها الله الإخوان الذين يحمونها وتفخر بهم .
لم يتعود حامد أن يبقى في مجلس أبيه ، فقد كان مكانه مع بقية الأسرة داخل البيت ، لكنه اليوم ليس من أصحاب البيت . انسلت صابرة إلى أمهات الدار تحمل ابنتها كلعبة تلاعبها وتضاحكها ، وتبثها أشجانها . فاستقبلنها بمشاعر المحبة والشوق التي كانت تتوقعها . وأوت إلى ذكرياتها تقلب كفيها وعينيها حيث كانت تجلس وتنام وتشتغل وتطهو وتغسل ، فكل كف تراب في هذا البيت يعرفها وتعرفه . وكل لحاف وفراش في هذا المركوس خاطته إبرتها ، ونفشت صوفه بيديها ، وها هي اليوم تنظر له مثل كل الغرباء !
أخذتها غالية وراضية ودارت بهن الدار ، يتذكرن معها ، ويتباكين على أيامها ، ويتمنين عودتها . لكنها آمال تقطعها الوقائع . ولم تستطع صابرة أن تفصح عما يجيش في صدرها . لكنها تفاعلت معهن في كل ما سمعت ، وما لبثت همساتهن أن صارت بسمات ، وكأنهن يطلبن من أم غالب وابنتها عزيزة مشاركتهن في فرحتهن بزيارتها . لكنهما ما لبثتا أن خرجتا إلى مجلس الرجال لتقضيا السهرة هناك مع حامد وإخوته .
ظلت صابرة وسلفتيها يتسامرن حتى سمعن نداء حامد . اهتزت صابرة من أعماقها ، وسابقتها دموعها وهي تنسل من بينهن مودعة كبقية الغرباء . حملت ابنتها وسارت خلف زوجها ، والليل يضيف للصمت وحشة .
علم حمد بفعل مختار ، فخجل من نفسه ، وتساءل كيف فاته أن يفعل مثله ، وهو أكبر منه ، وألصق بحامد ؟ فقد رافقه في السنتين الأخيرتين في أعمال الزراعة كلها . وكان يعتبره ذراعه التي لا تخذله ! عاد من صلاة الفجر ليجد أهل الدار مجتمعين على حسائهم . لم يشاركهم ، لكنه انثنى على بغله المطهم ، فجهزه ، ووضع عليه فراش حامد كله ، ووضع الخُرْجَ فوقه ، وملأه قمحًا ومتاعًا ، وهمهم لهم بقوله : هذا خيره الذي نتصدق به عليه اليوم ! كلوا من خيره ولا تشكروه ، من لا يشكر الناس لا يشكر الله ! لم يقم أحد لمساعدته سوى مختار . بقيت عيونهم متعلقة بما يفعل حمد . كانت نفس كلٍّ منهم تحدثه أن يفعل فعلته ، لكنه يخشى موقف الآخر ... وحين وقف بالباب نظر ناحية النساء وقال : صدق عمر بن الخطاب ، كلكن صويحبات يوسف ! لولا كيدكن ما فقدنا أبا زاهية ! فتصايحن ينتهرنه ، ويلفتن نظره إلى وجود أم غالب بينهن . لكنه أدار ظهره وانتهر بغله ومضى إلى حيث أخوه الذي صار غريبًا في القرية المجاورة .
كادت هواجسه تحدثه جهارًا ! فهو يحب حامدًا ، ولا يتصور الحياة في البيت إذا خلا منه . ليته يتراجع عن قراره . فالخير خيره ، والرزق الذي بين أيديهم صنع يديه وتعب عمره . وما في البيت أحد ينكر فضله ، وجميعهم ينصاعون له . فما بال حمدان تجرأ وقدم نفسه ، وما خرج للعمل سوى عام أو عامين ؟ نعم إنه متعلم ، وأمه تحبه وتخصه برعايتها ، لكن اليد الطولى لحامد . سامحك الله يا أم غالب ، لكن لست الأولى في هذه الحياة ، فقد فعلها يعقوب ، وأحب يوسف - عليهما السلام - أكثر من بقية إخوته .
رحب حامد بأخيه لكنه ألبسه ثوبًا من اللوم على فعلته ، وأظهر الكفاية والغنى عن كل ما عندهم ، وأن رزق الله كثير . أطلعه على نشاطه في تجارة الخضروات والفواكه ، وأرباحه التي جاد الله بها عليه . لم ينس حامد أن يوصيه بحمدان ، وطاعته لصالح العائلة وتماسكها . وحذَّره من تكرار تجربته . فهو أصغر من حمدان ، وأقل علمًا . وأكد أن حب حمدان في قلوب الجميع ، وليس في قلب الوالدة وحدها . وأنه لا يلوم أحدًا ، ويتحمل مسئولية ما حصل من كل الوجوه .
أبدى حمدٌ موافقته على كل ما سمع من حامد . وتناول كأسَ الشاي المعطر بالنعناع ، وداعب الطفلة زاهية لحظات . ثم ركب بغله وودعهم والدموع تستر عينيه التي يسترها بلثامه . وسار يدندن بأهازيج الغربة التي صار الناس يأنسون لسماعها ، بعد ما حل بهم من ارتحال عن ديارهم ، وتنكيل بأبنائهم ، وقتل لشبابهم ومجاهديهم . بأيدي عصابات الصهاينة ؛ ليفرغوا البلاد من أصحابها ؛ لتكوين كيانهم على أرض فلسطين .
صارت مشاعر حمد ومختار تتماوج في تعاملهما مع أهل الدار . فتجدهما أحيانا مطيعين وادعين . ينفذان كلَّ أمر يتلقيانه . وأحيانا لا يقبلان صغيرة ولا كبيرة . ينقلبان على بعضهما يتصارعان ويتعاركان . كانت أم غالب تخشى أن تصل بينهما الأمور حد الخصام والمشاحنة والعداء . فهي تعرف شدة العداوة بين الإخوان ، وتتعوذ بالله منها أن تراها في أبنائها .
أسرت مرة لمختار ، فهو الصغير ، وتخشى عليه من حمد . فقد وصلت الأمور بينهم مرةً حدًّا صعبًا وهي تنظر ، ولم يحسبوا لها حسابًا . وانتهرت ورفعت صوتها تقول : جيل لا يحترم الكبير لن ينصره الله . لكن حمد قال لها : حتى الجيل الذي كان يحترم الكبير انهزم وترك البلاد وصرتم لاجئين . تعوذت من الشيطان وأشارت له بأصابعها تحذره من التمادي .
كان حمد ومختار يتناوبان زيارة حامد ويحملانه وأسرته على البغال لزيارتهم والعودة بهم إلى غرفتهم . حتى ارتبطت عيون أهل الدار بهما . يسألونهم في غَدوتهم ورَوحتهم عن أحوال حامد وأسرته . وإذا أراد أحدُ أن يرسل هدية من طعام أو شراب أو كساء فهما من يحملها . فيبادلانه مشاعر الحب ، ويعيدان معه رباط الأسرة الذي انفصم ، ويفيضان عليه من المحبة التي يحملانها له في صدريهما . أخوين وفيين لا ينسيان له فضلاً .
امتلأ قلب حامد حبًّا لأئمة المساجد الذين أكثروا من نصيحته ، وشحنوا قلبه بعلوم الدين التي تمسك بها يطبقها ، وينشرها في أهل بيته . وتعلق قلبه بأهله ، لا يفارقهم . يزورهم في كل حين ، فيرى أبويه وإخوانه ، ويستشيرهم في كثير من أمره . لكنه كان حريصًا على أن تصبح غلته مثل غلتهم . وقد اعتمد على علاقاته القديمة مع أصحاب الأراضي والإقطاعيين . استأجر الكثير من الأرض . واشتغل معه الكثير من الفلاحين . ورأى نفسه خلال سنتين يقف على بيدر ليس أقل من بيدر أبي غالب . والبغال تجر الخشبة الدارسة ، ويعتلي عرشها مختار مرة ، وحمد مرة . والنساء يتكئن فوق البيدر يقششن ويرددن الأهازيج التي كان يسمعها وتلذ له وأمهات الدار وسط الهاجرة .
****************************
21/9/2011, 10:10 am من طرف abu-majdi
» أصعب ابتسامة
13/2/2011, 8:58 pm من طرف Dr.Aminbahily
» أل22% من فلسطين
13/2/2011, 8:46 pm من طرف Dr.Aminbahily
» جرح اللسان ما اقساه {{ قصة قصيرة }}
23/1/2011, 2:16 pm من طرف aliaa abustaiteh
» انظروا كيف أصح حالنا
23/1/2011, 10:28 am من طرف aliaastaiteh
» أي من الجمل التالية تؤلمك
22/1/2011, 3:19 pm من طرف aliaastaiteh
» قل لي ....
20/10/2010, 6:23 am من طرف مدير الموقع
» أجمل لحظات عمرك
5/6/2010, 9:59 pm من طرف زهرة المدائن
» ثلاثة أشياء
5/6/2010, 9:34 pm من طرف زهرة المدائن
» هل رأيت أثر التسبيح عليك ؟
5/6/2010, 9:24 pm من طرف زهرة المدائن
» اقرأ هذا الدعاء وان شاء الله سوف ييسر الله امرك
5/6/2010, 9:18 pm من طرف زهرة المدائن
» لكي الفخر بانك انثى
14/5/2010, 1:59 pm من طرف فيروز
» فوائد الموز
14/5/2010, 11:57 am من طرف زهرة المدائن
» انالا اطلب شفقة
23/4/2010, 5:07 pm من طرف عائشة استيتي
» مولود جديد
6/4/2010, 6:24 pm من طرف عائشة استيتي