- 12 –
حكمية والحكم
قامت حكمية كعادتها في ساعات الفجر الأولى . لكنها لم تجد الحركة التي تعودتها في بيت أهلها . الناس هنا يختلفون ، لا ضجيج عندهم بعد الفجر . فأبو محمود يخرج على مطحنته ، وتحلب أم محمود بقرتيها ، وتجهز اللبن ، ثم تنثني لتتعد العجين ، وبعدها تنام حتى الضحى الثاني ! والهدوء يسود الحياة كلها . والخيول تتراقص في مرابطها ، وتلاعب النسمات منتظرة فرسانها ليصحبوها في رحلتهم اليومية إلى مزارعهم الجبلية ، والتي لا يبذلون في خدمتها معشار ما يبذل أولاد أبي غالب في فلاحتهم .
كل شيء يختلف في دار أبي محمود ، والعمة ظريفة لا تملك شخصية حازمة كشخصية أم غالب . بل تعتمد على مداراة الكبير والصغير ، وتقدم خدماتها للجميع . فهي التي تعمل بيديها ، وبناتها يشاركنها بمساعدة يسيرة , تكفي ليتعلمن أمور البيت . وأبو محمود لا يعود إلى البيت إلا بعد العشاء . وضيوفه يقصدونه في المطحنة ، ولا علاقة لأهل البيت في إكرامهم . والشباب يعملون في حيفا ، أو يراقبون الفلاحين الذين يعملون في جبالهم .
وجدت نفسها متفرغة للحكم ، هذا الزوج الصغير المدلل . تعد له إفطاره من العسل والسمن وخبز البر الساخن في الطابون الذي لم تخبُ ناره منذ جهزته عمتها ظريفة . وينطلق ليلاعب فرسه ، ويسابق الشباب بخيولهم التي يتباهون بها ويدللونها . ليعود قبيل العصر ليتناول طعام الغداء ، ويجلس في ظلال أشجار الزينة في ساحة البيت . أو ليغسل فرسه ، ويعتني بملابسه وقيافته .
لا تعجبها هذه الأنماط من المعيشة ، فالحياة تحب الجد والتعب . ولا بد لها أن تعيش كما كانت في بيت أهلها ، ولعلها تحاول أن تدفع الحكم ليشاركها . ولم تثنها مقاومته لطموحاتها . بل زادتها إصرارًا . إنها تحب أخاها حامدًا ، وتحب أن يكون الحكم صورة منه . يحرث ويزرع ويجني لها الخير الكثير ، ويؤمن لها بيدرًا من القمح بارتفاع البيوت التي يسكنونها ، لتعتلي ظهر القش ، ويصحبها نساء القرية ، تقشش معهن لصناعة أوعيتها . وهو على خيوله يشغِّلها في الحرث والدرس .
لم يوافقها في آرائها . فهو الابن المدلل لظريفة ، ورزق أهله بفضل الله كثير . ولا يحتاج أن يشتغل بيديه . والحارثون الذين يستأجرهم أبو محمود يكفونه كل هذا الذي تطلبه حكمية . ولا بدَّ لها أن تتعود هذه الحياة . لكنها طورت حثه على العمل ، وصارت كأنها تملي عليه وتفرض ! زجرها ونبهها كثيرًا ، وأمام إصرارها ورفضه تفاقمت الأمور ، وارتفع صوته يؤنبها ، ويحذرها . وسمعت ظريفة جدالهم الذي ارتقى وصار نزاعًا . لم تشأ أن تتدخل ، لكن لم يعد من ذلك بدّ . فحكمية تهدد بالذهاب إلى أهلها وعدم العودة . أخذتها معها إلى الجبل تحتطب ، وتطلعها على جبالهم ، وما فيها من خير . وتبين لها الفارق بين الحكم وحامد . لكنها لم تجد بدًّا من أن يتحول الحكم إلى فلاح نشيط يكسب لقمته بكد يمينه . وإلا فلن يكون قادرًا على توفير لقمة العيش !
لم تصل رسالة ظريفة إلى حكمية ، واستمرت تجاهد نفسها لتصل بالحكم إلى ما تريد . لكنه يرى في آرائها انتقاصًا من رجولته . وعمال والده يقومون بما يكفي من الحرث والزراعة ، وبقية أعمال الأرض ، وما عليه سوى الإشراف عليهم من على صهوة فرسه . تلك المدللة التي ربّاها مهرة من فرس أبيه . يعتز بها ويسلسل نسبها ويتباهى بأصالتها . وما على حكمية في ذلك ؟ عليها أن تتعود ، وتكون إلى جانبه كالسيدات في حيفا ! فهنا بيت آخر غير بيت أهلها . ولم يحدث أن طلب منه أبوه أو أحد إخوته أن يعمل في الأرض . وتعودوا أن يراقبوا العمال فرسانا من على صهوات الجياد .
ألهبت قلب الحكم حين عيرته في اجتماع الأسرة بعد صلاة الجمعة بضآلة بيدرهم قبالة بيدر أهلها . وقلة حيلتهم وخواء خوابيهم من الحنطة قبل الموسم ، وأرضهم أكبر مساحة ، وأروى ماءً . والينابيع تتفجر من أطرافها رقراقة صيف شتاء . فإن وقفوا لها بأيديهم ستطعمهم في صحاف الذهب ! وتملأ الخوابي والمخازن والجيوب !
انتهرها ورفع صوته لتسكت . لكنها أبت ، فانتفض واقفًا يتهددها ! لكنها لم تقم له وزنًا ... زادت ثورته ، واحمر وجهه ، وانتفخت أوداجه .سحبها من ذراعها وأدخلها حجرتهم في زاوية البيت المقنطر وأقفل الباب بعمود المتراس ! وما استطاع الجمع حين سمعوا صراخها أن يفعلوا شيئًا ! سوى دعوات ظريفة وتوسلاتها ، ومحاولاتهم خلع الباب أو كسر المتراس . لكنهم عجزوا وعلتهم الحيرة والدهشة ، والخوف من عواقب الموقف ، فابنتهم عند أخيها ، وأمها قد لا تراعي الموقف .
خرج حامد لصلاة العصر ، فتدافعت ظريفة وبناتها ليرين ما حل بحكمية . ذُهلن من منظرها ، لم تكن كما عهدنها ! حاولن أن يتحدثن إليها ، ويسمعن منها ما جرى ، لكنها لم تستطع أن تنطق ببنت شفة ! واكتفت بالإشارة ..... خلت بها ظريفة ، وعالجت ما يمكن علاجه من كدمات وجروح ، وألبستها ما يليق من الثياب . وجمعت أهل الدار كلهم وأوصتهم بالحرص على كتمان ما حصل حتى عن أقرب الناس !
قامت حكمية من فراشها في اليوم التالي تمشي الهوينا ، ولا تطيق ثبات في خطوتها . ولاقتها ظريفة تواسيها ، تحمد الله على سلامتها . لكنها كأن لم تسمعها . وطلبت من عمها أبي محمود أن يحملها إلى أهلها . وافقها على أن تجلس ليحدثها في الأمر أولاً . وحاول جاهدًا أن يقنعها بكتمان ما حصل ، وأن الشكوى لأهلها لن تحل الحكاية ، وستحدث عداءً بين زوجها وإخوانها . لكنها لم تتراجع عن موقفها . وحين رأى إصرارها العجيب خلّى سبيلها ، وأبى أن يرافقها.
رأتها أم غالب تحمل صرة ملابسها على رأسها . تنهدت ونفثت نفسًا يحرق الندى ، وعرفت أن ابنتها بدأت طريقًا لا تُبنى بها البيوت . انفردت بها وسمعت حكايتها كاملة . انتهرتها وأوصتها أن تعيش كما يعيشون . ولا تخرب بيتها بيدها ، وقد تخرب معه بيت أخيها . وقررت لها أن تبيت الليلة عندهم ضيفة معززة مكرمة ، وتعود في الصباح إلى بيتها كأن لم يعلم أحد بما حدث .
تسامر أبو غالب وأولاده والسعادة تغمرهم بوجود حكمية التي جاهدت نفسها في كتمان أمرها ، لكن صابرة كانت ترى بحدسها أن حكمية لم تأت زائرة كما يشاع . حاولت أن تجاورها الجلسة لكن أم غالب كانت تكلفها بما تقدم للضيوف ، وما تجهز للعمال ، وما يصلح للفطور , و ..... فتأكدت أن وراء ذلك أمرًا ! أوت إلى فراشها لكن قلبها لم ينم . وقبل الفجر الأول قامت تحمل جرتها وتسابق النسمات إلى العين ، وحين غابت خلف أشجار الصبار المتشابكة انسلت كالبرق إلى طابون أمها لتعرف منها الحكاية ، وتحمل وصيتها أن لا تحرك ساكنًا ، ولا تسكن متحركًا .
ذهلت صابرة حين رأت خيالا يلاقيها وسط الظلام ، كمنت بين أشجار الصبار . وهالها أن هذا الخيال هو حكمية ، فعرفت أن أمها فرضت عليها . انسلت من كمينها وتابعت إلى العين لتعود إلى البيت بماء الفجر قبل أن يسرح السارحون . لكنها وجدت حماتها تتشاغل ببعض أعمال البيت ، وتقدمت لتساعدها في إفراغ الجرة وتهمس في أذنها : هل قالت لك ظريفة ما حصل ؟ صعقها السؤال ، لكنها أجابت من فورها بسؤالها : وما الذي حصل ؟ وأين أجد أمي في هذا الفجر ؟ أنا عجلت إلى العين لأن عمي وحامد يحبان ماء الفجر الذي أبرده الندى ! هزّت رأسها كمن صدّق ولم يصدق ، وتمتمت لها : أيعجبك أن يفعل حامد ما فعل الحكم ؟
وما فعل الحكم يا عمة ؟
لم تكن تلك المرة الأخيرة بين الحكم وحكمية ، فقد انفلتت يده ، وانفلت لسانها ، وصارت منها الصوت ومنه السوط ، ولم يعد الأمر قابلا للستر ، فقد عرفه القاصي والداني ، وما أكثر ما تعوذ الناس من شر دعواتها على زوجها ! وما أكثر ما سمع من بعض الغرباء : يا رجل النساء كثيرات ! لكن ظريفة كانت لهذه الأفكار بالمرصاد ، تجتثها من جذورها ، وقد ملأت رأس الحكم أنه لو فعل ذلك فسيدمر بيت أخته صابرة ، وهي التي لا ذنب لها . فكان الحكم يطأطئ رأسه ويبتلع ريقه ويملأ صدره ثم ينفث كمن سيشعل البحيرة !
تعودت ظريفة وأبو محمود على سماع الصراخ والدعوات ؛ ليمر بعدها الحكم متلثمًا لا سلام ولا كلام ، لكنه هذه المرة أوسعها شتائم وتجرأ على أهلها ، ولم تخجل أن تفضلهم عليه وأهله يسمعون . لم يزد أبو محمود عن أن يذكرهما بأن ما يفعلانه عيب ، ولا يقبله عاقل . لكنها ما لبثت أن خرجت تحمل صرتها متوجهة إلى أم غالب .
دخلت مع الرائحين من المزارع ، ورأوها وسمعوا حديثها قبل أن تتولاها أم غالب . تنادوا ممسين على قصعة من العصيد المحلّى بالعسل أتقنت صنعها صابرة ، وأجلسوها معهم ، ليسمعوا بقية الحكاية . وأقبلوا وهم يتخافتون ألا يدعوها اليوم تعود إلا وقد أخذوا لها حقها أو يزيدون . لكن حامد لاذ بالصمت , وظل جالسًا أمام القصعة حتى جاءته صابرة لتهمس في أذنه : أنا لا ذنب لي في ما حصل ، وحرصي على رضاك وأهلك أكثر من حرصي على أي شيء ، قلا تدع الشيطان يدخل حياتنا . وهالها صوت أم غالب : تلاطفها وتهامسها وأختك قد كسرت أضلاعها ؟؟
لم يكن قادرًا إلا على رضاها ، فانثنى بعصاه على ظهر صابرة ، ثم على رجليها حتى أقعدها ، وأصاب منها مقتلا ! انتفض كأنه لم يفعل شيئًا ، وتحامل على نفسه ليقوم إلى فراشه ويتركها على حصير المائدة . حين رأت حماتها جثمانها دون حراك تقدمت نحوها برأس من البصل تفتحه وتضعه على أنفها لتصحو . فتحت عينيها لتراها وتسألها : آعجبك يا عمة ؟ سامحك الله .. ما ذنبي بما يجري لحكمية ؟ هل بدر مني ما يوجب هذا ..... يا عمة : إن الله يرى ويسمع ! وأنا لساني لا يطيعني في أن أدعو على من ظلمني ، فأنتم أهلي . وما يضركم يضرني ... لكن سامحك الله ! والله لو قطعتموني فلن أذهب إلى بيت أهلي لأبني عداءً بين حامد وإخوتي .
ما لبث الشباب أن عادوا يتخافتون ، ويرفعون أصواتهم بشتائم ما تعودت صابرة أن تسمعها . لم يخجلوا من وجودها . وأبدوا ارتياحًا لِما رأوا من حالها . وسمعت أحدهم يقول لو فعل حامد في كل مرة بها مثل فعل حكم بحكمية لتوقف عند حده . لكن أم غالب انتهرته ، ووبخته ورفعت صوتها لتقول : ما ذنب هذه الصابرة إذا كانت أختكم لا تستطيع التعايش مع زوجها ؟ والله ما رأينا منها إلا الخير منذ جاءت ، ولن أقبل أن يفعل بها حامد ذلك مرة أخرى !
سمعت صابرة قولتها ، لكنها لم تحس بها صدقًا . كتمت مشاعرها ، وانسلت على غرفتها . دفنت نفسها في لحافها وأبت جفونها النوم ، وهي تُخمِّن : ما فعلوا بالحكم ؟ يا ويلتاه إن أصابوا منه مقتلا ، أو أن يكون وضع لهم ذِلة . كيف سيعيش بقية عمره ؟ يا ويلها تلك المرأة التي تقتل رجالها بجهلها وكيدها !
ومع نجمة الصبح انسلت من فراشها لتلاقي أمها عند الطابون تحمل جرّتها لتملأها بماء الفجر المندّى . ورغم ما أصابها إلا أن السعادة غمرتها حين علمت أنهم لم يتمكنوا منه ، وأنه حاصرهم في ساحة البيت ، ورجمهم بالحجارة حتى استغاثوا بعمهم .وانسحبوا لا يلوون على شيء . وأعجبها أنه ناداهم بعد أن خرجوا يجرون أذيالهم : يا ... إن جئتم المرة القادمة فلن تعودوا إلى أهلكم ! نفخت صدرها فخرًا ، وقالت رجل يُشَدُّ به الظهر ، ولا أخاف عليه بعد اليوم !
رجعت بالماء المندّى قبل أن يعود حامد من صلاة الفجر ، وانثنت تجهز له متاعه ،كأن لم يكدَّر صفوهما ، وأوصته كعادتها أن يتقيَ الله في نفسه وفي حلاله ، ورفعت صوتها تدعو له بالخير العميم وراحة البال ، والسلامة من كل مكروه ، وأن يعود لها سالمًا غانمًا . وأمه تسمع وتهز رأسها عجبًا وإعجابًا .
*******************************
21/9/2011, 10:10 am من طرف abu-majdi
» أصعب ابتسامة
13/2/2011, 8:58 pm من طرف Dr.Aminbahily
» أل22% من فلسطين
13/2/2011, 8:46 pm من طرف Dr.Aminbahily
» جرح اللسان ما اقساه {{ قصة قصيرة }}
23/1/2011, 2:16 pm من طرف aliaa abustaiteh
» انظروا كيف أصح حالنا
23/1/2011, 10:28 am من طرف aliaastaiteh
» أي من الجمل التالية تؤلمك
22/1/2011, 3:19 pm من طرف aliaastaiteh
» قل لي ....
20/10/2010, 6:23 am من طرف مدير الموقع
» أجمل لحظات عمرك
5/6/2010, 9:59 pm من طرف زهرة المدائن
» ثلاثة أشياء
5/6/2010, 9:34 pm من طرف زهرة المدائن
» هل رأيت أثر التسبيح عليك ؟
5/6/2010, 9:24 pm من طرف زهرة المدائن
» اقرأ هذا الدعاء وان شاء الله سوف ييسر الله امرك
5/6/2010, 9:18 pm من طرف زهرة المدائن
» لكي الفخر بانك انثى
14/5/2010, 1:59 pm من طرف فيروز
» فوائد الموز
14/5/2010, 11:57 am من طرف زهرة المدائن
» انالا اطلب شفقة
23/4/2010, 5:07 pm من طرف عائشة استيتي
» مولود جديد
6/4/2010, 6:24 pm من طرف عائشة استيتي