حكايات لطيفة
-1-
ملأت الهواجس قلبها ولما تتجاوز عمر الندى على صفحة النرجس ، وما تزال أجراس آهات أمها ترن في أذنيها خوفًا من تأخر زواجها ، ونظرات أقرانها التي تحس لسعها وتقرأ ما يهمسن به في خاطرهن ، إذ يخشين أن لا تجد من الشباب من يأتيها خاطبا ، وتبقى تنتظر راغبا في التعدد ، أو ذا عاهة لم ترضه الحسناوات ، أو فاقدا زوجة قضى معها أيام الشباب والهوى والهيام ! وتنهدات أمها كلما سمعت أصوات الزغاريد تعلن خطبة فلانة ، أو عرس علاّنة ....
ها هو أخوها ينوي زيارة المسجد الأقصى ، وقلبها يتراقص بين جنبيها أملاً في أن تفيَ أمُّها بوعدها وتسمح لها بمرافقته ، وهناك تبتهل إلى ربها وتتضرع إليه أكثر ، أن ييسر أمرها ، ويسهل طريقها ، ويحقق آمالها في بناء أسرتها ، وتربية أطفالها ، مثل بنات قريتها الوادعة ، التي احتضنتها هضبات تلوحها الشمس في مطلعها ، وتهديها لمعة التبر من صفحات أمواج البحر البعيد عند المغيب , وكم أكدت لها أمها أن الله – سبحانه وتعالى - يقبل الدعاء من المسلم أنى كان .
لم تتح أمها لهواجسها أن تعيش طويلا ، إذ أمرتها أن تحضر متاعها استعدادا للسفر غدا ، وقبل الفجر ، مع الحافلة القادمة من الناصرة إلى حيفا ، كي يتمكنا من اللحاق بحافلة القدس في حيفا ، فهي تتحرك باكرا ليتمكن الناس من صلاة الجمعة في المسجد الأقصى ، ....قامت كأنها لم تعان من تعب المزرعة طوال اليوم ، وكأنما آلتها لا تعرف الكلل ، أعدت أشياءهما التي تغنيهما عن أكل المطاعم ، أو البسطات غير النظيفة ، والغالية الثمن .
وجدت نفسها تغالب النوم والسائق في حيفا يدعوهما للحاق بحافلة بيت المقدس ، وقامت كأنما نشطت من عقال ، لتجمع أشياءهما ، وتنطلق خلف أخيها لتستقر معه في المقعد الخالي الوحيد الذي ينتظرهما ، وكم حاولت أن تعود لغفوة أفلتتها ، لكن تمتمات أخيها وهو يُعَرِّفها القرى التي يمرون بها كانت تفتح أجفانها المجهدة ، فكأنها تسافر إلى كوكب آخر ، وعالم يختلف عن عالم قريتها الوادعة . وكم كان يبهرها منظر السهل الممتد إلى ما بعد الرملة والُّلد ، لكن سرعان ما تقدمت بهم الحافلة نحو مرتفعات بيت المقدس ، وصارت ترى القرى وكأنها قريتها المتكررة ، كل منها يحتضنها سفحان أو أكثر لتلال متقاربة ، أو شِعبان و جبالهما الثلاثة ، تتربع على بساط تمتد الحدائق أمامها ، كما العابد في المحراب .
تكاد تسمع دقات قلبها حين استقرت الحافلة بباب العمود ، وصاح السائق بالركاب : الحمد لله على السلامة ، أنتظركم بعد صلاة الجمعة في نفس هذا المكان ، انتبهوا ، حدِّدوا العلامات التي تستدلون بها عند عودتكم ، القدس كبيرة ، فلا تؤخرونا في البحث عنكم ...
كانت أقدامهم تتحرك مسرعة نحو المسجد الأقصى ، وكان الناس يتواصون ، فليس سهلا أن يخرج المرء وسط الزحام ليجدد الوضوء ، ويشيرون إلى المعالم التي يستدلون بها عند العودة ، حتى لاحت أمامهم واجهة مسجد قبة الصخرة ، يا الله ...! لا بدَّ أن الذين أنجزوا هذه اللوحات النادرة العجيبة كانوا شيئا آخر ، ليسوا كمن أنجز المساجد المعروفة .
ما فتر لسان لطيفة عن الدعاء والتبتل ، وألحت إلحاح المضطرين ، وأيقنت أن الله سيحقق آمالها ، ويبلغها مرادها . وسالت الدموع تروي ظمأ خدين شققهما حرُّ المزارع وقرُّها ، واحمر وجهها خجلا من نظرات بعض المصليات اللاتي ما فتئن يلاطفنها ، ويشاركنها الدعوات بالتأمين على ما لم يكنَّ يسمعن منه إلا تمتمات من شفتين رجرجهما الأمل والرجاء والخوف .
سريعة هي أوقات السعادة ، فها هي قريتها كما هي لم تتغير ، وقد فتحت عينيها على أهلها يستقبلونها . كان السلام حارًّا ، ينبع من قلوب مشتاقة لا تماريِ في عواطفها ، فالناس لمّا يتعودوا السفر ، وأعمالهم في المزارع والبيوت لا تترك لهم فرصة للرحلات ، وهموم العيش وتكاليفه المتزايدة جعلتهم كأنما ضُرِبوا على رؤوسهم ، وهمومُهم الاجتماعية لا حدَّ لها .
لم تمهلها أمها لتستريح ، فقد كانت الرحلة بالنسبة لها راحة من المزارع وأعمال المنزل ، فبادرتها ببعض الأعمال الخفيفة ، التي ما لبثت أن أغرقتها بعد قليل في كل المهمات التي تركتها . وفي الزخم تمتمت لها والدموع تملأ محجريها ، فأومأت لها وهزت رأسها موافقة لما لم تسمع منه إلا بعض حروفه ، وما لبثت شفتا الأم تنفرجان عن ابتسامة خفيفة وجلة ، وهمست لها أن خالتها سألتها عنها ، وأخبرتها أن شابا من قرى الرَّوحة في جبال حيفا يريد الزواج من غريبة ، ومعه أخوه رغبة في النجاة من السفر إلى الحرب . فالجيش يجند الشباب كلهم ، وينقلهم إلى الجبهة ، إلا وحيد أبويه ، أو من كانت زوجته غريبة . فهؤلاء يعملون في أقرب المدن لقراهم . لذا فهم يبحثون عن بنت الحلال ذات الدين والخلق ، ولا يقفون طويلا عند الجمال الأخّاذ . وقالت خالتها : إنهم من عائلة كريمة طيبة . ويشهد لهم من يعرفونهم بالصلاح والاستقامة .
لم تبدِ لطيفة تفاعلا مع الخبر ، فهو مجرد سؤال ، وسيجد هؤلاء الشباب في القرية من الحسناوات من يغنيهم عن الوصول لها أو لأختها . لكن الأم تابعت همساتها وتمتماتها لتخبرها أنها وأختها المقصودتان . وقد جاءت خالة الشابين خاطبة ، وقابلت أختك ، وأبدت قبولها ورغبتها . وهي تعرفك ، وتحترم قدراتك في المنزل ، وتدبير أمور البيت . وثقتك بنفسك ، وإيمانك بربك ، فأنت معروفة بين بنات القرية كلها بصفات تتمناها كل امرأة لابنها ، وكل رجل عاقل يتمناك زوجة له ، وأمًّا لأولاده .
لم يطل الحديث بينهما ، فهذا صوت الضيوف يطرقون الباب ، ويجلسون مع أخيها ، وعمها ، وها هي خالة الشابين ، وأمهم تذرفان عليهما دموع المحبة والرغبة ، وتسلمان ، وتباشران تفقد الفتاتين ، من أعلى الرأس إلى القدمين ، .....
هكذا اعتاد الناس من الخاطبات لأولادهن . وتنزل الأسئلة مطرا على رؤوسهما ، حتى لا تكاد الواحدة منهما تجيب حتى تبادرها بالسؤال الآخر . وعلى طريقة المسلمين المتمسكين بدينهم وعاداتهم وتقاليدهم . لم يمضوا وقتًا طويلاً . وجدت لطيفة نفسها وأختها زوجتين لرجلين قويين وسيمين في قرية أخرى ، تطل على البحر من الجهة المقابلة ، من أعالي جبال الكرمل .
لم يتغير شيء من أعمال البيت والمزرعة ، فالحال واحدة . أهل القرى جميعا غارقون في أرضهم . يزرعون المواسم كلها . القمح والشعير ، والعدس والحمص والسمسم ، والبصل ، والبطيخ والشمام ، و.... لا تنتهي الأعمال . تبدأ المرأة قبيل الفجر بأعمال البيت ، بعد أن تهدئ نفسها بركتي قيام الليل على عجل ، فتشارك الرجل في أعمال المزرعة ، وتجهيز كل ما يحتاجه رجال البيت من الطعام ، لهم ولمن يشاركهم ، أو يعينهم . ولتحمله وتلحق بهم وتشاركهم أعمالهم . ثم تعود إلى البيت لتتابع أعمال الطعام والشراب والنظافة ، والحلب والصر ، مع بقية مهمات الأمومة والإنجاب .
الفلاّحة هناك دولابية التكوين ، ترابية التحمل . كأن الله – سبحانه وتعالى – خلقها بهذه الصفات لتتحمل مهماتها ، وتبني أجيالا على قدرها . لكن لطيفة ما لبثت أن علا وجهها مسحة من الحزن الذي بدأ يرسم خطوط الشيخوخة الباكرة . فقد كان زوجها يميل للراحة أكثر من العمل . ويجود بكل ما يجد ، حتى لا يدع لأهل البيت ما يقتاتونه . وقد اشتهر بذلك ، حتى لجأ لرهن أرضه لإخوته كي يحافظ على سمعته في الكرم والجود .
صارت تعمل أجيرة عندهم بعد أن كانت شريكة ! كم كانت تهرب من نظرات أختها وبقية نساء القرية وهن يرمقن ثوبها البالي ، أو خمارها المرقع . لكنها كانت تُوفِّر من كدها وعرقها لأولادها ما يوصلهم إلى الرجولة والنجابة . وتمني النفس بهم . وتراهم يشبون في كل يوم . وترى فيهم نجدتها ، وسندها . وما كانت تترك جبلا ولا واديا إلا وتقتحمه ، باحثة عن نبتة تصلح طعامًا ، أو خشبة تحتطبها لتسد بها الحاجة في الطبخ والتدفئة وغيرها .
كادت تنسى كيف ترسم البسمة على الشفاه ، فهي من كدٍّ لكد ، ومن جهد لجهد ، عناء بعد عناء ، والآه مكتومة في جوفها لا تخرجها طلبا للأجر من الله , ثم خوفا من شماتة الآخرين . حتى بدا لها أولادها يتسابقون للحاق بالرجولة الباكرة ، وحمل المسؤولية .
كم كان يثلج صدرها ويد أحدهم تمتد لها بأجر تقاضاه من عمل قام به في إحدى المزارع . وحين طلب منها ولداها الكبيران السفر إلى حيفا للعمل في مصفاة البترول بكت بقلب كسير ، لا تريد الغربة لهم ، ولا تريد أن تبقى في فقرها هذا .
بين مصراعي الفقر والغربة بكت ليلها وهي تصلي ركعتي الاستخارة ، وقبيل الفجر صحا ولداها على ما جهزت لهما أمهما لسفرهما إلى حيفا . ودَّعتهما مع ثلة من شباب القرية ، وأوصتها بالمحافظة على الصلاة ، والأخلاق الحميدة ، والرجولة ، ... ودعت لهما بالتوفيق والسلامة , وكانت ترفع يديها إلى السماء مبتهلة أن يردهما لها سالمين غانمين ...
ما أطول الأيام وهي تعدها منتظرة ولديها والخير الذي سيأتون به من حيفا ، وهي تقيم أودها بما تجد من بقايا طعام لها ولصغارها الباقين . وتغني لهم أغاني القرى المليئة بالأمل والثقة بالله الذي لا ينسى خلقه .
لم يمض شهر إلا وقد عاد الشابان اليافعان يحملان أجرهما من مصفاة البترول ، والهدايا التي لم تكن لطيفة تتوقعها من حيفا ، وكأنها في حلم ، كسوة لوالدهما ، وأخرى لها ، ولم ينسيا أخواتهما ، ولا إخوانهما الصغار ، حتى الفراش جاؤوا له بكسوة وملاحف بيضاء ناصعة ، من المنصوري الذي تتمناه كل ربة بيت .ما درت أتحتضن أبناءها أم تحتضن الهدايا ، ووجهها تبلله الدموع ، والشابان يرتميان على كتفيها ، ولم تمهل نفسها ، فبعد أن أكرمتهما وارتوى قلبها ، انثنت على القماش تقص وتخيط ، وتجهز ، حتى إذا طلع الفجر كانت كلها جاهزة .
لم تصدق نفسها ، ولم يصدق زوجها وأولادها ، عمَّتْهم الفرحة وفاضت على جيرانهم ، رغم حرصها على كتمان ما فعلت ، خوفا من عيون الحاسدين . لم يفتر لسانها عن القراءة والرقية الشرعية التي تحفظها من جدتها وأمها . وذاقت سعادة الأم بولدها ، وإنجازاته . وجعلت لقلبها لازمة من الشكر والثناء على الله ، الذي يستحق الحمد والشكر والثناء على كل حال .
21/9/2011, 10:10 am من طرف abu-majdi
» أصعب ابتسامة
13/2/2011, 8:58 pm من طرف Dr.Aminbahily
» أل22% من فلسطين
13/2/2011, 8:46 pm من طرف Dr.Aminbahily
» جرح اللسان ما اقساه {{ قصة قصيرة }}
23/1/2011, 2:16 pm من طرف aliaa abustaiteh
» انظروا كيف أصح حالنا
23/1/2011, 10:28 am من طرف aliaastaiteh
» أي من الجمل التالية تؤلمك
22/1/2011, 3:19 pm من طرف aliaastaiteh
» قل لي ....
20/10/2010, 6:23 am من طرف مدير الموقع
» أجمل لحظات عمرك
5/6/2010, 9:59 pm من طرف زهرة المدائن
» ثلاثة أشياء
5/6/2010, 9:34 pm من طرف زهرة المدائن
» هل رأيت أثر التسبيح عليك ؟
5/6/2010, 9:24 pm من طرف زهرة المدائن
» اقرأ هذا الدعاء وان شاء الله سوف ييسر الله امرك
5/6/2010, 9:18 pm من طرف زهرة المدائن
» لكي الفخر بانك انثى
14/5/2010, 1:59 pm من طرف فيروز
» فوائد الموز
14/5/2010, 11:57 am من طرف زهرة المدائن
» انالا اطلب شفقة
23/4/2010, 5:07 pm من طرف عائشة استيتي
» مولود جديد
6/4/2010, 6:24 pm من طرف عائشة استيتي