كيف أطير؟!
لم يتردد عبد السميع في الخروج مستأذنًا عند الضحى ، ولم يسأله أحد عن وجهته ، فهم يعلمون مدى التزامه ، وحرصه على أوقات الدوام ، لكنهم بادلوه نظرات غائرة ، لا تنبئ عن مستقرها ، ولا توحي بمدلولها . ووجد نفسه إلى جانب سائق الأجرة يشير له بيده إلى الأمام ، ولحظات في الطريق ألقته أمام موظف المبيعات في صالات الجميح ، يسأل عن قطع الغيار المطلوبة لإصلاح سيارته ، والأمل يترقرق في عينيه ، أن يبادره الموظف بأرقامها ، ويوجهه إلى الصندوق ليدفع الثمن ، لا يهم الثمن ، المهم أن يجدها .
جالت في مخيلته صور العام الماضي ، حينها لم يجد مبتغاه ، واضطر للاتصال بالأقارب والأباعد ، وشحنوا له ما طلب ، ووافق المطلوب حينا ، ولم يوافقه أحيانا ! ولم يستطع إرجاعها ، أو استبدالها ، فالوقت قد فات ، وكلمات الفنيين عن سيارته التي لا تتوفر قطع غيارها تدق أذنه ، وكأنه سمعها الساعة ، وكثير من الأدعية تراوده أن ييسر الله – سبحانه – أمور إصلاحها هذه المرة ، وكادت نبرات صوته تعلو وهو يقول : يا رب ... يا رب .....
قطعته كلمات الموظف عن أحلامه ، قال بكل هدوء : هذه أرقامها ، وتجدها عند المحلات المجاورة ، على بعد مئتي متر فقط ! إنها محلات الزاهد ، هي التي تتاجر بمثل هذه القطع .
خرج مطمئنا بعد ذهول قصير ، لم يجد القطع ، لكنه قد يجدها عند هذه المحلات القريبة ، حمل الورقة وطفق ينهب الطريق بخطوات متقاربة ما لبثت أن تباعدت ، وامتدت بها رجلاه ، وهو يردد : قال الرجل إنها قريبة ، مئتا متر فقط سأقطعها بسرعة ، ... ، وصل ولم يرفع عينيه ليقرأ اللافتة المعلقة على المحلات ، دخل مسرعًا ووقف أمام الموظف يسأله ، لكنه فوجئ بقوله : نحن لسنا محلات قطع غيار !
اعتذر وخرج يستجمع ما بقي من شباب ولّى ، وحزم أمره أن يمشي على رجليه ، وفي خاطره أن الرجل لم يقدر المسافة ، تقديرًا سليمًا ، لعله ترك تسعة أعشارها ، لا مشكلة ، ما المانع أن يمشي كيلا كاملا ، والجو لطيف والضحى طيب هذا اليوم ، والشمس في ربيع ضحاها ، وجللتها بعض الغيوم على استحياء ، ولفتها نسمات رقيقة دفعته دفعًا إلى المسير ، وحزم حبال العزم ، ومدَّ ساقيه إلى الطريق يذرعها ، وفي قلبه أمل يدفعه ، وفي أعماقه وجل أن يكون الرجل لا يعرف المكان الذي وصفه ، أو أن تكون المحلات قد نقلت مقرها !
وجد نفسه أمام البائع الآخر ، وهو يردد تجدها عند محلات ... ، ويشير بيده نحو الشرق . وتكرر المشهد مرة بعد مرة ، وصار الموقع الأول لا تراه العين ، وامتد الزمن ، وقاربت الشمس على الزوال ، خرج مسرعًا يريد تدارك الوقت الذي فات ، وأسلم رجليه للطريق ، ووجد نفسه يتسارع في حالة ما عهدها من نفسه قبل هذا ، وبدأ التعب يدب في أعطافه ، وقادته ذاكرته إلى أيام الفتوة ، والطرق الطويلة التي يقطعها في كل يوم ، بمسافاتها المذهلة ، وينهي يومه بسمر مع الأصحاب قد يمتد إلى أمد من الليل .
حينها لم يكن يعرف معنى الأرق ، كان يكفيه أن يسلم جسده للفراش لتأخذه الأحلام عبر غطيط هادئ ، كثيرًا ما كانت أذناه تسجله ، يقرأ دعاء النوم الذي حفظه من أمه – يرحمها الله - ، كان يوصله إلى نوم عميق ، لا يفتح عينيه بعدها إلا على الفجر !
توالت الصور على خياله ، ورجلاه تتماوج مرهقة ، تنوء بحمل لم يكن أيام الشباب ، وكبرت فكرة الركوب ، لكن الأمل في أن يجد القطعة في أقرب محل كانت تطردها ، بل تصارعها ، ولا يدري أيها الغالب . وخطر بباله لو أن أحد الزملاء ترميه الأقدار في طريقه ليرافقه في البحث عن مبتغاه , فقد حدث أكثر من مرة أن وجد بعضهم في مثل حالته ، وما كان يتركه حتى يحقق له هدفه ، سبحان الله ، قد شغلتهم أعمالهم ، وتركوه ! لا لم يتركوه ، ولو علموا بحاله لحملوه في قلوبهم ، كلهم كانوا يقولون له هذا ، ... قاتل الله الشيطان . ما كنت أقوم بعملي طلبا لمقابل ، إنما هو لوجه الله تعالى ... ومن قال إن وقوفهم معي ينفي أن يكون عملي خالصًا لوجه الله تعالى . .... لكن سامحهم الله .
أحس حينها أن رجليه لن تقويا على متابعة السير ، أوقف أول سيارة أجرة ، وألقى جسده بجوار السائق وأشار له بيده ، وتنقل معه من محل إلى آخر ، وكان يطرد اليأس بالأمل ، حتى زالت الشمس , وصارت حرارة الصحراء تلفح وجهه كلما نزل ليسأل في أي محل ، وقد أقفلت كثير من المحلات أبوابها . ووجد كلماته تطير إلى السائق أن يأخذه إلى المرآب ، حيث سيارته تنتظره . بأعطالها التي لم تُرأب .
فاجأه الفني وهو يرى القطعة القديمة في يده بقوله : كنت متأكدًا أنك لن تجد البديل الجديد ! ... سامحك الله ، ولِمَ لم تقل لي هذا من البداية ، كنت أرحتني من عناء البحث ، ... ضحك الفني ، وهو يسمعه يقول : أنا أقرب الناس للقناعة بآراء الفنيين أمثالك ، على كل حال : ما الحل في رأيك ؟ قال الرجل : والله يا أستاذي العزيز لا حل عندي ، ويمكنك أخذ سيارتك إلى أي مرآب آخر ، فإني أعلن عجزي عن رأب سيارتك .
تناول هاتفه ، وبحث عن كهربائي قديم كان يصلحها عنده ، وأخبره بما حدث ، وأسعدته كلماته التي ترحب بقدومه إليه ، ودعائه أن ييسر الله لهم إصلاحها .
جاءت شاحنة يسمونها ( سطحة ) وحملت سيارته الصغيرة وسط الهاجرة ، وأسلم جسده للكرسي جوار السائق ، على أريكة ساخنة ، إذ لا تكييف في سيارة الشحن ، وعاش أحلامًا حملت له ذكرياته عبر الزمن ، نصف قرن أو يزيد من الكد في هذه الحياة ، ... صحا على صوت السائق : ما بك يا رجل ؟ أجاب ما من شيء ، ولِمَ تسأل ؟ لأنك تردد كثيرًا : ضاع الجناح ؟ وأنا أنظر إلى السيارة ، وما بها أية ضربة ، أو خدش ، فما الجناح الذي ضاع ؟؟؟؟
تمتم بكلمات غير مفهومة ، ثم قطعها بقوله ، هنا يا أخانا ، هذا هو المرآب ، وكأنه بوصوله تخلص من الإجابة عن سؤال الرجل .أنزلوا السيارة ، وترك مفتاحها عند أحد العمال ، وأوصاه أن يعطيه الفني عند حضوره في الدوام المسائي .
صعد إلى جانب السائق مرة أخرى ، وأسلم نفسه لأحلام اليقظة التي صار يحبها هذه الأيام ، ولم يفق منها إلا حين وصل إلى أقرب مكان لبيته ، دفع الحساب للرجل ، وعاد إلى بيته يجر رجليه المنهكتين ، وحين وصل ألقى بقايا جسده على فراشه ، ولم يدر ما حدث بعدها حتى سمع صوت المؤذن ، فقام يجرر أذيال التعب ، إلى المسجد القريب . ووجد لسانه ما يزال يردد ، ضاع الجناح ، ضاع الجناح !!
احصائيات
أعضاؤنا قدموا 2501 مساهمة في هذا المنتدى في 570 موضوع
هذا المنتدى يتوفر على 42 عُضو.
آخر عُضو مُسجل هو hamada فمرحباً به.
بحـث
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
21/9/2011, 10:10 am من طرف abu-majdi
» أصعب ابتسامة
13/2/2011, 8:58 pm من طرف Dr.Aminbahily
» أل22% من فلسطين
13/2/2011, 8:46 pm من طرف Dr.Aminbahily
» جرح اللسان ما اقساه {{ قصة قصيرة }}
23/1/2011, 2:16 pm من طرف aliaa abustaiteh
» انظروا كيف أصح حالنا
23/1/2011, 10:28 am من طرف aliaastaiteh
» أي من الجمل التالية تؤلمك
22/1/2011, 3:19 pm من طرف aliaastaiteh
» قل لي ....
20/10/2010, 6:23 am من طرف مدير الموقع
» أجمل لحظات عمرك
5/6/2010, 9:59 pm من طرف زهرة المدائن
» ثلاثة أشياء
5/6/2010, 9:34 pm من طرف زهرة المدائن
» هل رأيت أثر التسبيح عليك ؟
5/6/2010, 9:24 pm من طرف زهرة المدائن
» اقرأ هذا الدعاء وان شاء الله سوف ييسر الله امرك
5/6/2010, 9:18 pm من طرف زهرة المدائن
» لكي الفخر بانك انثى
14/5/2010, 1:59 pm من طرف فيروز
» فوائد الموز
14/5/2010, 11:57 am من طرف زهرة المدائن
» انالا اطلب شفقة
23/4/2010, 5:07 pm من طرف عائشة استيتي
» مولود جديد
6/4/2010, 6:24 pm من طرف عائشة استيتي