-4- محراث بأربعة/ بقلم د. أمين الستيتي
استمر الأهل في سمرهم مع غالب وحامد حتى استحوذ عليهم النوم . كانت عيونهم تتلاقى والدموع تملأ محاجرها وتكتمها . فإذا انحدرت ستروها بعتمة الليل ، وخفوت السراج والصمت ، والتظاهر بالإنصات . أحيانا يمد أحدهم يده ليربت على الأكتاف ، أو يشد على الأيدي . وتدور الأحلام في قلوبهم ، بل تتطاير حتى تكاد تتشابك . فلا يدري أحدهم أيحلم لنفسه ، أم يحلم للأسرة كلها . جميعهم يحلم أن يعود الأخوان غالب وحامد من حيفا سالِـمَيْن غانمين ، ومعهما المحراث الحديث ، والحصانين الموعودين .
اقترح الأب أن يكون الحصانان أشقرين ، فهذا لون ملوك الخيل . لكن الأم رأت أن اللون لا يهم ، المهم أن يكونا سليمين قويين ، قادرين على الحرث والعمل طوال النهار ، فهي تعرف أبناءها إذ يعملون في أرضهم . لا يكلون ولا يملون ، ولا بدَّ أن تكون الخيل فَتِيَّة تتحمل قدراتهم في العمل . والتوفيق أولا وآخرا بيد الله – سبحانه وتعالى - . رفعت يديها وجهرت بالدعاء لأولادها وخصت غالبًا وحامدًا بأكثر الدعاء . وكانوا جميعا يؤمنون على دعائها .
ظلت همسات الوالدة وتوصياتها تتوالى حتى اللحظة الأخيرة ، وقد سار الشابان بهمة ونشاط ، يحملان متاعهم المتواضع ، حتى بلغا قمة التل الذي يفصلهم عن الطريق المعبد . وقفا يلقيان النظرة الأخيرة على قريتهم ، وبيتهم ، فوجدا بقية الأسرة ما تزال ترقبهم . والقلوب تتعلق بأطيافهم المتلاشية مع بقية الليل . لوحوا لهم ليغيبوا عنهم بعد لحظة إلى يوم اللقاء المرتقب .
لم يجد غالب كبير عناء ليقنع مسئول العمال بقبول أخيه عاملا في فرقته ، ويعطيه مثل أجره ، ووعده بما يسره منه في العمل والانضباط والطاعة . كيف لا وما جاؤوا إلا ليحققوا أملا تركوا أسرتهم كلها خلفهم تبني قصورها وأحلامها على جهدهم وإنتاجهم ؟ فكانوا إذا أُجهدوا تذكروا الهدف الذي يسعون له ، فازدادوا قوة وتصميما ، وعلت همتهم ، وارتفعت أصواتهم بالأهازيج التي يشعرون بالسعادة وهم يرددونها . صار بقية العمال يشاركونهم تردادها ، فيزداد الإنتاج .
لم يكن حامد قد رأى المحراث ذا السكك الأربع ، فكان يهمس لغالب : أين رأيته ؟ وهل حقًّا هناك محراث بأربع سكك ؟ هل حقًّا يستطيع الحارث أن يركب وهو يحرث ؟ وهل يستطيع حصانان أن يجراه ؟ يا الله كم كان أتمنى أن أرى ذلك المحراث ! وكم كان غالب يؤكد له أنه رآه في المزرعة الكبرى التي أسسها الإنجليز في المعسكر المجاور ، ووطنوا فيه اليهود الهاربين من ألمانيا ، وأحدهم يعمل معهم في مُنشآت المصفاة . ورآه مرة فاستوقفه ، وسأله بكلمات اختلطت عربيتها بالإنجليزية ، فأكد لهم هذا اليهودي الألماني صحة ما يقول غالب . وشعرا أنه أحب صحبتهما فدعواه ليشاركهما طعام الفطور . وصار لهما علاقة طيبة منذ ذلك الوقت معه . وهو ييسر لهم أعمالا إضافية . ومرة اصطحبهم إلى المعسكر ، ورافقهم إلى مكان ذلك المحراث ، وأخذ يدربهم على استعماله ، وسمح لهما أن يجرباه في مزرعة الحكومة النموذجية .حتى أجادا وأبدعا في فكه وتركيبه . وحين أحس منهما تعلقا زائدا بالمحراث ، عرض عليهما شراءه . بـهرتهم الفكرة ، وساوموه حتى تم الاتفاق . أسر لهم أنه سيخرجه لهم يوم السبت ، حيث إجازة اليهود .
لم تكن عيون حامد تصدق أنه في شهر تقاضى أربعين جنيهًا ، وأخوه مثله ، حملوا دنانيرهم ، وتوجهوا إلى سوق الخيل ، وما أسعد تلك اللحظة التي اعتلى فيها كل منهم صهوة جواد مطهم ، كان أحد الجوادين أشقر لامعا ، وكان الآخر أبيض تشوبه مشحات من سواد محبب ، يقول الفلاحون : هذا الحصان الأزرق . ولم ينسيا موعدهما مع أبي مريم - اليهودي الألماني - ليتسلموا المحراث ، فربطا حصانيهما عليه ، وركبا المقعدين الجانبيين ، ورفعاه بمقبض الرفع ، وسارا كأنما ملكا نصف الكون ، تتماوج بهم الأرض ، كأنها البحر ، وتلفح وجوههم نسمات الفجر الباكر ، وهما يغذان السير نحو قريتهما ، والأسرة التي تنتظرهما .
قبيل صلاة الجمعة بدت لهما القرية ، والفرحة تملأ قلبيهما ، والشوق يدفعهما ويُعلي همتهما ، وما كان لهما أن يشعرا بالتعب . لم يصدق الناس ما يرون ، أيعقل أن يكون هناك محراث بهذه المواصفات ؟ لا بدَّ أنكما ستحرثان السهل والجبل في يومين ! وهما يهزان لهم رأسيهما ، ويمنيانهم بمساعدتهم في حرث أرضهم . ولن يزيدا عليهم سعر الحرث . وتعلق بهما إخوانهما الذين قابلوهما بين الجموع ، واعتلوا المقعدين ، وساروا جميعا إلى حيث تنتظرهما تلك الأم بقلب يملؤه الحب والأمل ، وذلك الأب الذي تشرئبُّ عنقه ، وتتطاول عزا وفخارا بابنيه اللذين حققا ما لم يحققه أحد من أبناء القرية .
لم ينتظرا كثيرا في البيت . هو يوم ما زالت شمس ظهيرته حتى كان الشابان في أرضهما يحرثان ، فيركبان مرة ، ويمشيان أخرى خلف المحراث ، والحصانان يلعبان أمامهما كأنهما عروسان . وإخوانهما يتصيدون العصافير التي تتكاثر خلف المحراث تبحث عن ديدان الأرض ، وبعض البذور والحبوب التي بذروها ، ويتصايحون كلما وقع عصفور في مصيدة أحدهم . ويتراكضون ، ويتسابقون على كرسي المحراث أيهم يعتليها ، وأيهم يقود ويحرث ، فقد صار الحرث أسهل !
لم تكن الفرحة تخفى ، فالأب والأم حضرا إلى الأرض ، وهالهما مقدار الحرث الذي تحقق في نصف يوم ، وقد كانوا يقضون أياما في حرثها ، مع التعب والملل الذي لا حد له ، واليوم كل هذا الإنجاز ، ولا يبدو على ولديهما التعب . بل لعل الحماس يدفعهما للاستمرار في الحرث حتى العشاء الآخرة . سبحان الله ، علَّم الإنسان ما لم يعلم .
أَتَمّـا حرث أرضهم كلها ، وما كادا يفكان المحراث حتى تكاثر الفلاحون يعربون عن رغبتهم في حرث أرضهم ، وبدأ غالب يعطي كلاًّ منهم دوره ، ويسجل على سجل صغير كان في جيبه ، بقلمه الذي لا يفارقه ، على أنه لا يتقن سوى كتابة الحروف ، فكان يرمز لكل فلاح بالحرف الأول من اسمه ، فإذا تشابه مع آخر زاد حرفا .
لم يمض شهر حتى امتلأت جيب غالب بالدنانير ، كان يواصل الحرث إلى ساعة متأخرة من الليل ، وينجز في ليلته ما ينجَز في يومين ، وكم كان يزيد للخيل العليق ، ويزيد من عنايته بهما في الورود إلى العين وقت الضحى وقبيل المغيب ، وكثيرا ما كان يغسلهما بالفرشاة على العين ، خاصة وقت الضحى والشمس تملأ الأرض دفئًا . وكان الفلاحون يتسابقون لمساعدته .
العطلة والراحة كلمتان لا وجود لهما في معجم غالب وحامد ، إلا إذا تعرض المحراث لخلل ، كانا يجرانه بالحصانين إلى حداد قريب ، أعجبه المحراث ، فأخذ يدرسه دراسة مستفيضة ، ويصلح فيه كل خلل ، ولا يبالغ في اقتضاء الجر ، أحب الشابين ، وأحباه ، وصارت صداقتهم مثلا ، والناس يتناقلونه : ( أبو عيسى وغالب وحامد ) ، حتى صار أبو عيسى الحداد يأتيهما إلى المزارع ليصلح لهما محراثهما .
لكن الذهول أصاب الشابين حين رأيا سيارة رجال الأمن تقف عندهما في إحدى المزارع ، وتتهمهما أنهما سرقا هذا المحراث . وتأخذ الجميع إلى حيفا ، تاركين الحصانين في المزرعة وحدهما . وسرت الشائعات في القرية كلها ، بل تعدتها إلى القرى المجاورة ، والناس بين مصدق ومكذب . فلم يعهدوا من الشابين إلا الخير ، والصدق والجد . فهل يمكن ذلك ؟ وكيف ؟وأعقلهم يقول : سيأتيك بالأخبار من لم تزود !
اكتشف الشابان أن اليهودي أبا مريم هو الذي سرق المحراث وباعه ، وسجلا ذلك في اعترافاتهما في مركز الأمن ، استُدعي أبو مريم اليهودي ، واعترف بجريمته ، وأعاد لهما ثمن المحراث ، وأصر عليهما ضابط المركز أن يكتبا تعهدا بعدم تكرار ذلك ، وأن لا يشتريا من أملاك الحكومة شيئا إلا بتوثيقه من الجهات الرسمية . وقع الشابان التعهد ، وخرجا يحملان الحيرة ، ويتساءلان عن البدائل .
أخذتهما الطريق إلى حيث أبو عيسى الحداد ، الذي رحب بهما والبسمة على وجهه ، وأكرمهما وجلس إلى جانبهما يطمئنهما أنه قادر على صناعة محراث بديل ، وبمواصفات أفضل من ذلك الذي استعاده الإنجليز منكما ! شبا يصيحان : الله أكبر ! ومتى تنهيه ، قال أبو عيسى بثقته المعهودة ، اليوم مساء ، أو غدا صباحا ، وكم يكلف ؟ نصف المبلغ الذي أعاده لكم اليهودي ! كبرا وكبرا وكبر معهم أبو عيس ، وعانقهما مودعا ليحضرا حصانيهما ويجرانه .
كانت الدموع تملأ عيون الأب والأم ، والحسرة تعلو وجهيهما ، والحيرة في عيون الأبناء الصغار الذين لجؤوا للبيت باكرا خشية من كلام الناس الذي لم يحتملوه ، حين دخل غالب وحامد البيت ، وأخبرهم الخبر اليقين .ساد الصمت والهدوء البيت ، والأم تحدث نفسها وتقول ننتظر للغد ، ونرى قولكما ، والأب يؤكد لها ما يشك به من داخله ، ويعتمد على أن ولديه لا يكذبان ، ولا يسرقان ، فليس من صفات هذا البيت إلا الصدق والجد . لكن الأم أنهت الجلسة بقولها : قالوا رأينا الحصان يصعد المئذنة ، فهذا الحصان وهذه المئذنة . وأوت إلى فراشها تحاول النوم الذي يعز على عيون أم أصيبت في أعز ما تملك .
لم يشأ غالب وحامد أن يعودا إلى الأرض التي تركاها يوم الحادثة الأليمة ، فعادا إلى البيت والمحراث الجديد ، بحديده اللامع يجره الحصانان ، ومواصفاته المميزة ، فقد صنع لهم أبو عيسى مسندا للظهر لكل كرسي ، وجعل رافعة المحراث أقوى وأعلى ، وجعلها مدرجة ، يتحكم الحارث في عمقها في الأرض . وهذا ما لم يكن في المحراث القديم ، كما جعل السكك متحركة ، قابلة للفك والتركيب بسهولة . إذ يمكنهم الحرث بها بين المزروعات المتباعدة . فصار للمحراث مهمات ، وقدرات أفضل ، وصار الأمر بيّنًا للجميع .
نزل غالب وحامد إلى السهل يحرثان للناس بأجور متواضعة ، والناس يتكاثرون عندهم ، ويقدمون لهم الطعام فوق الأجرة التي يتقاضونها ، فباتوا في السهل الأسابيع المتتالية ، وامتلأت جيوبهم بالمال الحلال ، ودرجت على لسان الشابين أدعية كانا يحفظانها من الشيوخ الذين يقابلونهما في صلاة الجمعة ، مثل : اللهم اغننا بحلالك عن حرامك . اللهم ارزقنا رزقا حلالاً طيبا ، وابعد عنا كيد الشيطان . وأذكار الصباح والمساء .
يا لفرحة الأم حين يعود غالب وقد امتلأت جيبه بالمال الحلال ، يناولها ، ويوصيها أن تجود لوالدهما بما يحتاج ، فقد كانت تعد لهم أشهى المأكولات في ذلك اليوم ، حتى قال أحد إخوانهما الصغار ، ليتكم يا غالب تعودون في كل يوم ، فنحن لا نحظى بهذه الأطعمة ، وبهذا القدر إلا يوم تأتون .
استمر الأهل في سمرهم مع غالب وحامد حتى استحوذ عليهم النوم . كانت عيونهم تتلاقى والدموع تملأ محاجرها وتكتمها . فإذا انحدرت ستروها بعتمة الليل ، وخفوت السراج والصمت ، والتظاهر بالإنصات . أحيانا يمد أحدهم يده ليربت على الأكتاف ، أو يشد على الأيدي . وتدور الأحلام في قلوبهم ، بل تتطاير حتى تكاد تتشابك . فلا يدري أحدهم أيحلم لنفسه ، أم يحلم للأسرة كلها . جميعهم يحلم أن يعود الأخوان غالب وحامد من حيفا سالِـمَيْن غانمين ، ومعهما المحراث الحديث ، والحصانين الموعودين .
اقترح الأب أن يكون الحصانان أشقرين ، فهذا لون ملوك الخيل . لكن الأم رأت أن اللون لا يهم ، المهم أن يكونا سليمين قويين ، قادرين على الحرث والعمل طوال النهار ، فهي تعرف أبناءها إذ يعملون في أرضهم . لا يكلون ولا يملون ، ولا بدَّ أن تكون الخيل فَتِيَّة تتحمل قدراتهم في العمل . والتوفيق أولا وآخرا بيد الله – سبحانه وتعالى - . رفعت يديها وجهرت بالدعاء لأولادها وخصت غالبًا وحامدًا بأكثر الدعاء . وكانوا جميعا يؤمنون على دعائها .
ظلت همسات الوالدة وتوصياتها تتوالى حتى اللحظة الأخيرة ، وقد سار الشابان بهمة ونشاط ، يحملان متاعهم المتواضع ، حتى بلغا قمة التل الذي يفصلهم عن الطريق المعبد . وقفا يلقيان النظرة الأخيرة على قريتهم ، وبيتهم ، فوجدا بقية الأسرة ما تزال ترقبهم . والقلوب تتعلق بأطيافهم المتلاشية مع بقية الليل . لوحوا لهم ليغيبوا عنهم بعد لحظة إلى يوم اللقاء المرتقب .
لم يجد غالب كبير عناء ليقنع مسئول العمال بقبول أخيه عاملا في فرقته ، ويعطيه مثل أجره ، ووعده بما يسره منه في العمل والانضباط والطاعة . كيف لا وما جاؤوا إلا ليحققوا أملا تركوا أسرتهم كلها خلفهم تبني قصورها وأحلامها على جهدهم وإنتاجهم ؟ فكانوا إذا أُجهدوا تذكروا الهدف الذي يسعون له ، فازدادوا قوة وتصميما ، وعلت همتهم ، وارتفعت أصواتهم بالأهازيج التي يشعرون بالسعادة وهم يرددونها . صار بقية العمال يشاركونهم تردادها ، فيزداد الإنتاج .
لم يكن حامد قد رأى المحراث ذا السكك الأربع ، فكان يهمس لغالب : أين رأيته ؟ وهل حقًّا هناك محراث بأربع سكك ؟ هل حقًّا يستطيع الحارث أن يركب وهو يحرث ؟ وهل يستطيع حصانان أن يجراه ؟ يا الله كم كان أتمنى أن أرى ذلك المحراث ! وكم كان غالب يؤكد له أنه رآه في المزرعة الكبرى التي أسسها الإنجليز في المعسكر المجاور ، ووطنوا فيه اليهود الهاربين من ألمانيا ، وأحدهم يعمل معهم في مُنشآت المصفاة . ورآه مرة فاستوقفه ، وسأله بكلمات اختلطت عربيتها بالإنجليزية ، فأكد لهم هذا اليهودي الألماني صحة ما يقول غالب . وشعرا أنه أحب صحبتهما فدعواه ليشاركهما طعام الفطور . وصار لهما علاقة طيبة منذ ذلك الوقت معه . وهو ييسر لهم أعمالا إضافية . ومرة اصطحبهم إلى المعسكر ، ورافقهم إلى مكان ذلك المحراث ، وأخذ يدربهم على استعماله ، وسمح لهما أن يجرباه في مزرعة الحكومة النموذجية .حتى أجادا وأبدعا في فكه وتركيبه . وحين أحس منهما تعلقا زائدا بالمحراث ، عرض عليهما شراءه . بـهرتهم الفكرة ، وساوموه حتى تم الاتفاق . أسر لهم أنه سيخرجه لهم يوم السبت ، حيث إجازة اليهود .
لم تكن عيون حامد تصدق أنه في شهر تقاضى أربعين جنيهًا ، وأخوه مثله ، حملوا دنانيرهم ، وتوجهوا إلى سوق الخيل ، وما أسعد تلك اللحظة التي اعتلى فيها كل منهم صهوة جواد مطهم ، كان أحد الجوادين أشقر لامعا ، وكان الآخر أبيض تشوبه مشحات من سواد محبب ، يقول الفلاحون : هذا الحصان الأزرق . ولم ينسيا موعدهما مع أبي مريم - اليهودي الألماني - ليتسلموا المحراث ، فربطا حصانيهما عليه ، وركبا المقعدين الجانبيين ، ورفعاه بمقبض الرفع ، وسارا كأنما ملكا نصف الكون ، تتماوج بهم الأرض ، كأنها البحر ، وتلفح وجوههم نسمات الفجر الباكر ، وهما يغذان السير نحو قريتهما ، والأسرة التي تنتظرهما .
قبيل صلاة الجمعة بدت لهما القرية ، والفرحة تملأ قلبيهما ، والشوق يدفعهما ويُعلي همتهما ، وما كان لهما أن يشعرا بالتعب . لم يصدق الناس ما يرون ، أيعقل أن يكون هناك محراث بهذه المواصفات ؟ لا بدَّ أنكما ستحرثان السهل والجبل في يومين ! وهما يهزان لهم رأسيهما ، ويمنيانهم بمساعدتهم في حرث أرضهم . ولن يزيدا عليهم سعر الحرث . وتعلق بهما إخوانهما الذين قابلوهما بين الجموع ، واعتلوا المقعدين ، وساروا جميعا إلى حيث تنتظرهما تلك الأم بقلب يملؤه الحب والأمل ، وذلك الأب الذي تشرئبُّ عنقه ، وتتطاول عزا وفخارا بابنيه اللذين حققا ما لم يحققه أحد من أبناء القرية .
لم ينتظرا كثيرا في البيت . هو يوم ما زالت شمس ظهيرته حتى كان الشابان في أرضهما يحرثان ، فيركبان مرة ، ويمشيان أخرى خلف المحراث ، والحصانان يلعبان أمامهما كأنهما عروسان . وإخوانهما يتصيدون العصافير التي تتكاثر خلف المحراث تبحث عن ديدان الأرض ، وبعض البذور والحبوب التي بذروها ، ويتصايحون كلما وقع عصفور في مصيدة أحدهم . ويتراكضون ، ويتسابقون على كرسي المحراث أيهم يعتليها ، وأيهم يقود ويحرث ، فقد صار الحرث أسهل !
لم تكن الفرحة تخفى ، فالأب والأم حضرا إلى الأرض ، وهالهما مقدار الحرث الذي تحقق في نصف يوم ، وقد كانوا يقضون أياما في حرثها ، مع التعب والملل الذي لا حد له ، واليوم كل هذا الإنجاز ، ولا يبدو على ولديهما التعب . بل لعل الحماس يدفعهما للاستمرار في الحرث حتى العشاء الآخرة . سبحان الله ، علَّم الإنسان ما لم يعلم .
أَتَمّـا حرث أرضهم كلها ، وما كادا يفكان المحراث حتى تكاثر الفلاحون يعربون عن رغبتهم في حرث أرضهم ، وبدأ غالب يعطي كلاًّ منهم دوره ، ويسجل على سجل صغير كان في جيبه ، بقلمه الذي لا يفارقه ، على أنه لا يتقن سوى كتابة الحروف ، فكان يرمز لكل فلاح بالحرف الأول من اسمه ، فإذا تشابه مع آخر زاد حرفا .
لم يمض شهر حتى امتلأت جيب غالب بالدنانير ، كان يواصل الحرث إلى ساعة متأخرة من الليل ، وينجز في ليلته ما ينجَز في يومين ، وكم كان يزيد للخيل العليق ، ويزيد من عنايته بهما في الورود إلى العين وقت الضحى وقبيل المغيب ، وكثيرا ما كان يغسلهما بالفرشاة على العين ، خاصة وقت الضحى والشمس تملأ الأرض دفئًا . وكان الفلاحون يتسابقون لمساعدته .
العطلة والراحة كلمتان لا وجود لهما في معجم غالب وحامد ، إلا إذا تعرض المحراث لخلل ، كانا يجرانه بالحصانين إلى حداد قريب ، أعجبه المحراث ، فأخذ يدرسه دراسة مستفيضة ، ويصلح فيه كل خلل ، ولا يبالغ في اقتضاء الجر ، أحب الشابين ، وأحباه ، وصارت صداقتهم مثلا ، والناس يتناقلونه : ( أبو عيسى وغالب وحامد ) ، حتى صار أبو عيسى الحداد يأتيهما إلى المزارع ليصلح لهما محراثهما .
لكن الذهول أصاب الشابين حين رأيا سيارة رجال الأمن تقف عندهما في إحدى المزارع ، وتتهمهما أنهما سرقا هذا المحراث . وتأخذ الجميع إلى حيفا ، تاركين الحصانين في المزرعة وحدهما . وسرت الشائعات في القرية كلها ، بل تعدتها إلى القرى المجاورة ، والناس بين مصدق ومكذب . فلم يعهدوا من الشابين إلا الخير ، والصدق والجد . فهل يمكن ذلك ؟ وكيف ؟وأعقلهم يقول : سيأتيك بالأخبار من لم تزود !
اكتشف الشابان أن اليهودي أبا مريم هو الذي سرق المحراث وباعه ، وسجلا ذلك في اعترافاتهما في مركز الأمن ، استُدعي أبو مريم اليهودي ، واعترف بجريمته ، وأعاد لهما ثمن المحراث ، وأصر عليهما ضابط المركز أن يكتبا تعهدا بعدم تكرار ذلك ، وأن لا يشتريا من أملاك الحكومة شيئا إلا بتوثيقه من الجهات الرسمية . وقع الشابان التعهد ، وخرجا يحملان الحيرة ، ويتساءلان عن البدائل .
أخذتهما الطريق إلى حيث أبو عيسى الحداد ، الذي رحب بهما والبسمة على وجهه ، وأكرمهما وجلس إلى جانبهما يطمئنهما أنه قادر على صناعة محراث بديل ، وبمواصفات أفضل من ذلك الذي استعاده الإنجليز منكما ! شبا يصيحان : الله أكبر ! ومتى تنهيه ، قال أبو عيسى بثقته المعهودة ، اليوم مساء ، أو غدا صباحا ، وكم يكلف ؟ نصف المبلغ الذي أعاده لكم اليهودي ! كبرا وكبرا وكبر معهم أبو عيس ، وعانقهما مودعا ليحضرا حصانيهما ويجرانه .
كانت الدموع تملأ عيون الأب والأم ، والحسرة تعلو وجهيهما ، والحيرة في عيون الأبناء الصغار الذين لجؤوا للبيت باكرا خشية من كلام الناس الذي لم يحتملوه ، حين دخل غالب وحامد البيت ، وأخبرهم الخبر اليقين .ساد الصمت والهدوء البيت ، والأم تحدث نفسها وتقول ننتظر للغد ، ونرى قولكما ، والأب يؤكد لها ما يشك به من داخله ، ويعتمد على أن ولديه لا يكذبان ، ولا يسرقان ، فليس من صفات هذا البيت إلا الصدق والجد . لكن الأم أنهت الجلسة بقولها : قالوا رأينا الحصان يصعد المئذنة ، فهذا الحصان وهذه المئذنة . وأوت إلى فراشها تحاول النوم الذي يعز على عيون أم أصيبت في أعز ما تملك .
لم يشأ غالب وحامد أن يعودا إلى الأرض التي تركاها يوم الحادثة الأليمة ، فعادا إلى البيت والمحراث الجديد ، بحديده اللامع يجره الحصانان ، ومواصفاته المميزة ، فقد صنع لهم أبو عيسى مسندا للظهر لكل كرسي ، وجعل رافعة المحراث أقوى وأعلى ، وجعلها مدرجة ، يتحكم الحارث في عمقها في الأرض . وهذا ما لم يكن في المحراث القديم ، كما جعل السكك متحركة ، قابلة للفك والتركيب بسهولة . إذ يمكنهم الحرث بها بين المزروعات المتباعدة . فصار للمحراث مهمات ، وقدرات أفضل ، وصار الأمر بيّنًا للجميع .
نزل غالب وحامد إلى السهل يحرثان للناس بأجور متواضعة ، والناس يتكاثرون عندهم ، ويقدمون لهم الطعام فوق الأجرة التي يتقاضونها ، فباتوا في السهل الأسابيع المتتالية ، وامتلأت جيوبهم بالمال الحلال ، ودرجت على لسان الشابين أدعية كانا يحفظانها من الشيوخ الذين يقابلونهما في صلاة الجمعة ، مثل : اللهم اغننا بحلالك عن حرامك . اللهم ارزقنا رزقا حلالاً طيبا ، وابعد عنا كيد الشيطان . وأذكار الصباح والمساء .
يا لفرحة الأم حين يعود غالب وقد امتلأت جيبه بالمال الحلال ، يناولها ، ويوصيها أن تجود لوالدهما بما يحتاج ، فقد كانت تعد لهم أشهى المأكولات في ذلك اليوم ، حتى قال أحد إخوانهما الصغار ، ليتكم يا غالب تعودون في كل يوم ، فنحن لا نحظى بهذه الأطعمة ، وبهذا القدر إلا يوم تأتون .
21/9/2011, 10:10 am من طرف abu-majdi
» أصعب ابتسامة
13/2/2011, 8:58 pm من طرف Dr.Aminbahily
» أل22% من فلسطين
13/2/2011, 8:46 pm من طرف Dr.Aminbahily
» جرح اللسان ما اقساه {{ قصة قصيرة }}
23/1/2011, 2:16 pm من طرف aliaa abustaiteh
» انظروا كيف أصح حالنا
23/1/2011, 10:28 am من طرف aliaastaiteh
» أي من الجمل التالية تؤلمك
22/1/2011, 3:19 pm من طرف aliaastaiteh
» قل لي ....
20/10/2010, 6:23 am من طرف مدير الموقع
» أجمل لحظات عمرك
5/6/2010, 9:59 pm من طرف زهرة المدائن
» ثلاثة أشياء
5/6/2010, 9:34 pm من طرف زهرة المدائن
» هل رأيت أثر التسبيح عليك ؟
5/6/2010, 9:24 pm من طرف زهرة المدائن
» اقرأ هذا الدعاء وان شاء الله سوف ييسر الله امرك
5/6/2010, 9:18 pm من طرف زهرة المدائن
» لكي الفخر بانك انثى
14/5/2010, 1:59 pm من طرف فيروز
» فوائد الموز
14/5/2010, 11:57 am من طرف زهرة المدائن
» انالا اطلب شفقة
23/4/2010, 5:07 pm من طرف عائشة استيتي
» مولود جديد
6/4/2010, 6:24 pm من طرف عائشة استيتي